مشروع اطاري نحو الدوله الوطنيه
صفحة 1 من اصل 1
مشروع اطاري نحو الدوله الوطنيه
إن السودان بحدوده السياسية الراهنة وتركيبتة السكانية لم يوجد منذ الأزل ففي تلك الرقعة الجغرافية قامت ممالك نبته ، ومروي ، وعلوة ، والمقرة ،والسلطنة الزرقاء ، الفور ،والمسبعات ،وتقلي .وجميعها كانت ممالك قبلية ، ولم تكن الممالك اللاحقة نتيجة لتطور الممالك السابقة ، بل قامت علي أنقاضها ولكنها حملت معها شيء من عناصر تلك اللبنات السابقة فهذه سنة التاريخ ، فتشكل وعيها الجمعي في حدود الرقعة الجغرافية التي قامت فيها تلك الدويلات او الممالك ونظرت إلي الآخرين بأنها دول الجوار كما هو في المفهوم السياسي الحديث.
أن تلك الدويلات والممالك كانت وطن او دول إذا أسقطنا عليها التعريف الأكاديمي للدولة { ارض – جماعة من البشر – إدارة} إذا كان يسكنها شعب يعيش وحده علي صعيد وعيه. وحدتها تجعل كل فرد في تلك الممالك يحس بأنهم ينتمون للإدارة في تلك الرقعة الجغرافية ويتأثرون بأحوال ذلك الشعب في سلوكه. وظلت تلك الممالك كذلك إلي أن وحدتها جيوش محمد علي في دولة مركزية داخل الرقعة الجغرافية التي استطاعت أن تخضعها تلك الجيوش. وبدأ مع بدايتها مسير السلطة المركزية في تشكيل وعي جماعي بتلك الحقائق قابل للوحدة المركزية مع شعوب الممالك ورافض للمستعمر حتى بالتقائه معه في العقيدة ،وقد ظل ذلك الوعي الجماعي ينمو رغم محاولات المستعمر البريطاني للتفتيتة من خلال سياسته لإدارة الدولة.
أن النخبة السياسية التي بدأت مسيرة الأنظمة الوطنية في الأول من يناير1956م. لم يتجاوز فهمها للدولة الفهم الأكاديمي .هذا الفهم لا يتجاوز معرفة ماهو قائم ،وقد يفسر كيف قام أما إلي أين يتجه فهو يتوقف علي فهم العلاقة الجدلية بين مكونات الدولة وهذه مسالة سياسية والسياسة حلم والحلم مشروع. ولذلك لم تستطيع تلك النخبة أن تنمي ذلك الوعي الجماعي السياسي في اتجاه ثقافي أيدلوجي يستوعب التركيبة السكانية في تلك الرقعة الجغرافية التي تسمي السودان وأدارت الدولة علي أساس وظيفي وليس علي أساس ثقافي يفسح المجال لنمو لذلك الوعي.
كانت السلطة الوطنية امتداد للإدارة البريطانية من خلال التركيبة التي أنشأتها والمتمثلة في محور الختمية والأنصار بامتدادها القبلي والإقليمي . فهذه السلطة الوطنية عندما أسست احزابها وجدت السودان وحدة سياسية أسس علي رقعة جغرافية بفعل خارجي – محمد علي – وان حق تقرير المصير أصبح مبدأ أممي فرضته بقوة الحرب العالمية الثانية .وقررته مصر للسودان الذي اعتبر جزء من أملاكها. وان شكل نظام الحكم قرره المستعمر وفق نظام دولته التي تأسست عبر قرون وكل ذلك في إطار المناورات الامبرتطورية في السيطرة علي العالم. فنشأ السودان كيان مستقل مأزوم غاب فيه المشروع الوطني وغاب فيه الحلم الوطني.
أن الرقعة الجغرافية لايمكن أن تكون وطن إلا إذا كان الشعب الذي يسكنها يحس بوعي جماعي بأنه وطن وانه ينتمي إليه. وهذا الوعي المقصود لا يعني الوعي بوحدة الأرض ،فوحدة الأرض لا تكفي لتأسيس وطن ،فأفريقيا وشبه القارة الهندية أوطان متعددة رغم وحدة الأرض. ولا يعني الوعي الجماعي الاعتقاد بوحدة عرقية لمجموعة الشعب الذي يعيش في هذه الرقعة الجغرافية (كما تأسست ألمانيا وايطاليا) .ولا يعني الوعي الجماعي بوحدة العقيدة التي تجمع ذلك الشعب في الرقعة الجغرافية فباكستان قد انقسمت رغم تلك الوحدة .كما أن الوعي بوحدة الثقافة او الهوية وحدها لا تأسس وطن. فهناك تجربة كوريا التي انقسمت إلي شمالية وجنوبية. أن وحدة الوعي المقصودة هي بان هناك تاريخ مشترك يجمع بين الأفراد الذين يسكنون الرقعة الجغرافية ، بمعني أن الجيل الحالي هو امتداد لأجيال تراكمت خبرتها في الرقعة الجغرافية.
أن التفاعل بين البشر في الرقعة الجغرافية المعنية والذي ينتج وعي مشترك هو الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه الدولة ، فهو الذي يوحد مجموعة البشر في الدولة.وقد يكون هذا الوعي بوحدة ثقافية او عرقية او سياسية ، فكثير من الدول الأوربية قد تشكلت علي ذلك النحو.وقد يكون هذا الوعي بالتعدد والتباين الاثني:{ عرقياً- وثقافياً} فالتاريخ المشترك في الرقعة الجغرافية هو الذي يخلق وعي مشترك بذلك الواقع الجغرافي سوا كان في إطار الوحدة الثقافية او التعدد والتنوع الثقافي وهو الذي يخلق الوحدة السياسية التي تقوم علي أساسها الدولة. فالتنوع الثقافي والعرقي ليس مشكلة في تأسيس الدولة. إذا تشكل وعي جماعي بهذا التعدد، وان كان هذا التعدد يصبح مدخل للقوي الأجنبية الطامعة في السيطرة إذا فشلنا في إدارة ذلك التعدد بطريقة تحقق الإشباع السياسية لكل المجموعات المكونة للدولة. فالوعي بالتعدد الثقافي والعرقي يجب أن يكون أجابه علي السؤال من نحن ؟ وان إدارة ذلك التعدد بالطريقة التي تحقق الإشباع السياسي لكل المجموعات يجب أن يكون هو الإجابة علي السؤال ماذا تريد؟
فالنخبة السياسية التي تسلمت مقاليد الأمور بعد الاستقلال وانعقدت عليها أمال الجماهير لم يتجاوز حلمها كراسي السلطة الذي وفرتها لها شكل الدولة- إلي حلم الجماهير،وبالتالي ظل التمايز الاقتصادي والسياسي الذي ورثته تلك النخبة من المستعمر قائم بين تلك المجموعات الثقافية والعرقية لان تلك النخبة عجزت عن ازالت الحواجز بين تلك الجماعات التي سكنت وتساكنت إلي بعضها في إطار الدولة السودانية ،وقد أدي ذلك إلي توقف نمو الوعي الجمعي ، بل أدي إلي ارتداده وتراجعه وظهور الحركات الجهوية والاقليمة منذ بداية صعود تلك النخبة إلي سدة الحكم والذي علقت النخبة الحاكمة ظهورها علي شماعة المستعمر منذ تمرد حاميت توريت إلي أحداث دارفور.حتى أصبحت تلك الحركات الجهوية والاقليمة المحرك الآن للسياسية في الدولة السودانية.
تلك الحيثيات مقدمه ضرورية في المشروع الإطاري للدولة الوطنية. فيجب أن يكون هناك اتفاق عام بين القوي السياسية حول حيثيات تأسيس الدولة الوطنية التي تتصارع من اجل الوصول إلي السلطة فيها. و لا يعني ذلك الموافقة علي تلك الحيثيات التي طرحناها وإنما هي مطروحة للحوار من اجل الوصول إلي حيثيات متفق عليها لان ذلك هو نقطة البداية في مشروع الدولة الوطنية تقوم عليها كل البنأت الاخري من اجل الخروج من أزمة الوطن .فلا يكفي مجرد الاعتراف بالتعدد والتنوع الثقافي لان ذلك الاعتراف كما قلنا في مقال سابق موجود في الذهنية الشعبية بصورة سلبية يتعارض مع فكرة الوحدة الوطنية. ولا يكفي للخروج من الأزمة الحديث عن التداول السلمي للسلطة. فالديمقراطية ليس شكل نظام حكم ،وإنما مشكلة حرية شعب.
وإضافة إلي تلك الحيثيات فعلينا أن نتفق بان بناء الوطن لا يتطلب فرض هوية واحدة علي الجماعات المنقسمة عرقياً وثقافياً. وإن كانت وحدة الهوية تقلل من مهددات الوحدة الوطنية – فالشعوب ليس قابلة للتذويب والانصهار ولكنها قالبة للتفاعل في جو من الديمقراطية وحرية الاختبار ،وأي محاولة للقهر والإلغاء مألها الفشل . فالاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا لم تستطيع أن تحافظ علي وحدة الدولة بتذويب الشعوب من خلال الايدولوجية . فالجماهير لا تقبل أن تساق من إذنيها ولو إلي الجنة كما قال ماوتسي تونج ...فالنظام القائم الآن ومن خلال سياسته القائمة علي فرض هوية محددة علي كل الرقعة الجغرافية التي تسمي السودان قد أوصل أزمة الدولة السودانية إلي حافت التمزق وقيام كيانات متعددة في تلك الرقعة الجغرافية. إلا انه فتح أفاق للحوار تطلبته مقاومة النظام نفسه من خلال ما طرحه من مشروع للدولة السودانية.
طرح نظام الجبهة القومية الإسلامية مشروعه الحضاري لإعادة صياغة المجتمع السوداني وفق قيم تدعي أنها من الدين من اجل نهضة السودان والخروج به من أزمة الدولة التي ظلت حبيسة الدائرة الخبيثة { انقلاب عسكري- حركة شعبية – حكومة انتقالية – نظام لليبرالي } التي كبلت تطوره منذ أن نال استقلاله لتخرج به إلي رحاب الاستقرار والنهضة في رحاب قيم السماء طارحه بذلك تحدي حضاري للقوي السياسية الاخري التي جربت السلطة وفشلت او كان لها السلطة وانتزعت عنها.
كان علي القوي السياسية أن تواجه ذلك المشروع بمشروع ففرضت المسالة الثقافية نفسها علي الحراك السياسي في إطار الحكومة والمعارضة وتبنت المعارضة شعار السودان الجديد الذي طرحته الحركة الشعبية ،فبدأ الحديث عن التعدد الثقافي والعرقي في مواجهة ما فرضه النظام من هوية محددة فأصبحت المسالة الثقافية تأخذ الأولية في الحراك السياسي ،إلا أن المعارضة لم تكن لها رؤية واحده حول فكرة السودان الجديد لتتحول إلي برنامج سياسي يوحد الجماهير في جبهة وطنية حقيقة لمقاومة النظام. ولكن ظل شعار السودان الجديد .لما له من بريق علي لسان كل الجماهير التي كانت تعاني من ممارسة نظام الإنقاذ، ولذلك كانت الرؤية للسودان الجديد رؤية هلامية لا تختلف عن شعار الإسلام هو الحل فأصبح هذا الشعار أزمة مضافة إلي أزمة الدولة السودانية.
أن القوي التي تبنت هذا الشعار {شعار السودان الجديد} ومن اجل الحفاظ علي السودان بحدوده السياسية وتركيبته السكانية طرحت ما يسمي بالسودانوية كهوية جامعة لتعدد الثقافي والعرقي القائم في السودان ولترسيخ ذلك المفهوم لدي الجماعات المتعددة في السودان بدوا بنفي عروبة الشمال- علي الرغم من أن جميع المنظرين لهذا الشعار هم من الشمال- وبالتالي اسقطوا ثقافة المجموعة الغالبة ، أي إلغاء وجود الأخر في تركيبة الدولة السودانية بما فيهم الدعات أنفسهم وسحب دعائم شخصيتهم التي هي جزء من مكونات الدولة. فإذا كان مطلب شعار {السودان الجديد} أساساً رفض الهيمنة ونفي الأخر والاحادية الثقافي فعلي قوي السودان الجديد أن تعترف بعروبة الشمال ثقافياً وليس إنكارها لمجرد أن النخبة الشمالية التي إدارة البلاد بعد الاستقلال فشلت في تنمية الوعي الجمعي للمجموعات التي تسكن السودان. وإلا كان ذلك هو نفي للأخر الذي يمثل الأغلبية في تكوين الدولة السودانية المنشودة.
أما حديث هذه القوي عن تقسيم الثروة والسلطة عبر عقد اجتماعي جديد من اجل تحقيق المساواة والديمقراطية هو تكريس للجهوية والاقليمة. فمصطلح التقسيم يعني { حقي وحقك } يعني ترسيخ روحه الانفصال ، يعني انفراط ذلك العقد الاجتماعي بين الجماعات التي تسكن السودان بحدوده السياسية ، يعني تمزيق السودان إلي مجموعات.أن الاعتراف بالتعدد الثقافي لا يعني الاعتراف بالكيان الجهوي وإنما هو اعتراف بثقافات داخل الكيان الذي يسمي السودان ،وبتالي فان التوزيع العادل للثروة والتنمية المتوازية وتوسيع الظل الإداري هي المصطلحات التي يجب أن تسود في ظل الاعتراف بالتعددية الثقافية والعرقية ، فمشروع الدولة الوطنية يقوم علي ركيزتين الركيزة الأولي الوحدة الوطنية في ظل التعدد الثقافي والعرقي في مواجهة التفتيت والتشرذم الذي وصلت إليه الحركة السياسية بعد صعود الحركة الجهوية لقيادته .والركيزة الثانية شكل نظام الحكم الذي يتيح لذلك التعدد الثقافي والعرقي تحقيق الإشباع السياسي.
أن تحقيق الوحدة الوطنية من خلال نظام ديمقراطي هو أساس المشروع الوطني للدولة السودانية .والبداية في هذا المشروع الاعتراف بالتعدد السياسي وهذا لا يعني أولوية المسألة السياسية علي المسالة الثقافي، فهناك علاقة جدلية بين المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية . فالمقصود الاعتراف بالأخر السياسي وبان له دور في بناء الوطن ، فليس هناك حق تاريخي لأي حزب. سواء تأسس قبل الاستقلال أم بعده ، سواء رفع علم السودان او خاض معركة كرري يمنحه السلطة في الدولة. وليس هناك حق الإلهي يعطي حزب دون غيره حق تجسيد إرادة السماء في سلطة الدولة.
الحزب السياسي منظمة من منظمات المجتمع المدني ، يختلف عن بقية منظمات المجتمع المدني لرؤيته الشمولية لحل مشكلات الواقع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وبيئياً ، ولا نعني الشمولية بنهجها السياسي. أما تلك الحلول التي بطرحها الحزب لحل مشكلات الواقع ليس بالضرورة أن تكون كلها صحيحة ، وينبغي لنا أن لانتعامل مع تلك الحلول بمفهوم الإقصاى باعتبارها شراً مطلق ولا تنبع من رؤية وطنية ، أي وصفها بالخيانة الوطنية. فالاختراقات الناتجة من الصراعات الاقليمة والدولية للمشروع الوطني يترك لأجهزة الدولة الأمنية. فالحديث عن العمالة والخيانة الوطنية وصف بترك للأجهزة العدلية وليس للقوي السياسية حتى لا يكون ممارسه إرهاب علي الأخر.تلك المفاهيم هي الأساس للاعتراف بالأخر في ظل التعددية السياسية المطلوبة.
أن هذه التعددية الحزبية لا تعني بالضرورة الأخذ بالمنهج اللبيرالي ببعده الاقتصادي كما ظهر في أوربا الغربية أبان الثورة الصناعية .فالمنهج اللبيرالي ليس السبيل الوحيد للتخلص من آثار الدكتاتورية العسكرية .فحرية الانسان تبدأ بتحرير إرادته من كل القيود السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيق تطوره ، وهذا لا يعني أن مشروع الدولة الوطنية المنشود يرفض الحلول التي توصل إليه غيره سوي أن كانت لبيرالية أو اشتراكية ، فهذا تعصب يمنع المشروع الوطني من الاستفادة من التجربة الإنسانية ويحكم عليه بالفشل في ظل تكنولوجيا الاتصالات الذي جعل من العالم قرية صغيرة.
أما شكل السلطة المطلوب في هذا المشروع هو الذي يجعل مقولات مثل حكومة الوحدة الوطنية والوفاق الوطني والجبهة الوطنية المتحدة أمراً واقع فعلياً وليس مجرد شعارات ، يجب أن تحقق تلك المقولات إشباع سياسي لكل الجماهير حتى تستطيع الجماهير أن تقطع الطريق أمام أي مغامرة سياسية دون حاجه لتوقيع ميثاق للدفاع عن الديمقراطية او تكوين هيئة شعبية للدفاع عن الحريات .فان شكل السلطة المطلوب يجب أن يتيح لكل القوي السياسية الوصول ببرنامجها السياسي للجماهير ، هذا من جانب ومن جانب الآخر أن تكون الجماهير قادرة علي التعاطي مع تلك البرامج وان تكون إرادتها حاضرة تستطيع أن تلزم السلطة الحاكمة باحترام خياراتها.
أن قدرة الجماهير علي التعاطي مع برامج الأحزاب السياسية المختلفة وقدرتها علي فرض إرادتها هو الذي يمنح القيمة الايجابية للاعتراف بالتعدد الثقافي والعرقي. وهنا تبرز العلاقة الجدلية بين السياسي والثقافي. فالجماهير بوعيها ندرك التنوع الثقافي من خلال انتمائها وتستطيع أن تفرض إرادتها من خلال اختيارها بما اتاحه لها النظام من إدارة سياسية تحقق الإشباع الثقافي والاجتماعي لكل المجموعات المكونة للسودان بحدوده السياسية الراهنة أي أن تحقق ذلك الإشباع لا يعني الاستجابة للترسبات القبلية والإقليمية والجهوية التي أصبحت تقود الحراك السياسي الآن نتيجة الإخفاق في مواصلة البناء ، فإدارة الدولة بمفهوم تقسيم الثروة والسلطة إستجابه تلك الترسبات دون الوطنية تؤدي في النهاية إلي تقسيم تلك الدولة. فيجب أن يستمر بريق السلطة المركزية كمحور ارتكاز لذلك التعدد والتنوع وليس كسلطة مهيمنة. فالسودان كما يقول الأستاذ/المرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد هو مجال تدامج لكل شعوب القارة الأفريقية ، فهو من خلال موقعة شرق القارة الأفريقية ، حيث تقوم حدود التماس الحضاري بين السلالات السودانية الغربية التي تمتد من غرب النيل إلي المحيط الأطلسي وبين سلالات الهضبة الإثيوبية ، كما يمتد أيضاً هذا التماس للتدامج مع المحيط الإفريقي الاستوائي الممتد إلي الجنوب وصولاً إلي بحيرات النيل في يوغند وكينيا .فهو بهذا الفهم دولة محورية ودائرة تفاعل كبري تحتوي علي كل نماذج القارة الأفريقية. فهو الوسيط الجغرافي بين أقسامها المختلفة ، ولا يستطيع أن يعلب ذلك الدور الوسيط إلا إذا كانت فيه السلطة المركزية لها بريق يجذب الأطراف المكونة له لان تلك الأطراف هي التي تجذب امتدادها خارج الحدود السياسية.وحتى تكون لتلك السلطة المركزية هذا البريق في ظل ذلك التعدد يجب أن تتوجه مشروعات البناء الداخلي الوطني لإعادة الاعتبار إلي مفهوم الدولة ليصبح السودان وطن موحد رغم التعدد والتنوع علي أن يكون ذلك الوطن منفتح علي جواره الإنساني وهذا هو أساس الذي تنبي عليه السياسية الخارجية ، فإننا في عصر العوملة عصر لا توجد فيه إلا الدول الإقليمية او الإمبراطورية.
أن هذه الدولة لا تبنيها الشعارات الجذابة ولا الأناشيد الحماسية التي تشعل الوجدان وقت دائها ثم تزول بعد ذلك كما تفعل الخمر بمعاقرها.. أن حشد الجماهير ترغيباً وقهراً لا يبني الأوطان . كما أن بناء الأوطان لا يقوم علي أنقاض الأخر او تهميشة .فالأرض واحدة هي السودان وتخطيط البيت يمكن أن يتنوع إذا ضمن رسوخ الأساس التي أنبنا عليها. ولكن إذا جهلنا طبيعة الأرض التي أنبنا عليها فلن يقوم لها بنيان فهذه اللحظة هي لحظة ثقافية لحظة تصحيح الوعي المعرفي بالنفس والأخر (كما يقول الأنصاري) فمشروع الدولة الوطنية يبدأ من إصلاح مؤسساتنا الحزبية لتقود الحراك السياسي بدلاً عن القومي الجهوية التي تقود الآن.
منقول من جريدة البديل
الاستاذ الفاتح سليم
أن تلك الدويلات والممالك كانت وطن او دول إذا أسقطنا عليها التعريف الأكاديمي للدولة { ارض – جماعة من البشر – إدارة} إذا كان يسكنها شعب يعيش وحده علي صعيد وعيه. وحدتها تجعل كل فرد في تلك الممالك يحس بأنهم ينتمون للإدارة في تلك الرقعة الجغرافية ويتأثرون بأحوال ذلك الشعب في سلوكه. وظلت تلك الممالك كذلك إلي أن وحدتها جيوش محمد علي في دولة مركزية داخل الرقعة الجغرافية التي استطاعت أن تخضعها تلك الجيوش. وبدأ مع بدايتها مسير السلطة المركزية في تشكيل وعي جماعي بتلك الحقائق قابل للوحدة المركزية مع شعوب الممالك ورافض للمستعمر حتى بالتقائه معه في العقيدة ،وقد ظل ذلك الوعي الجماعي ينمو رغم محاولات المستعمر البريطاني للتفتيتة من خلال سياسته لإدارة الدولة.
أن النخبة السياسية التي بدأت مسيرة الأنظمة الوطنية في الأول من يناير1956م. لم يتجاوز فهمها للدولة الفهم الأكاديمي .هذا الفهم لا يتجاوز معرفة ماهو قائم ،وقد يفسر كيف قام أما إلي أين يتجه فهو يتوقف علي فهم العلاقة الجدلية بين مكونات الدولة وهذه مسالة سياسية والسياسة حلم والحلم مشروع. ولذلك لم تستطيع تلك النخبة أن تنمي ذلك الوعي الجماعي السياسي في اتجاه ثقافي أيدلوجي يستوعب التركيبة السكانية في تلك الرقعة الجغرافية التي تسمي السودان وأدارت الدولة علي أساس وظيفي وليس علي أساس ثقافي يفسح المجال لنمو لذلك الوعي.
كانت السلطة الوطنية امتداد للإدارة البريطانية من خلال التركيبة التي أنشأتها والمتمثلة في محور الختمية والأنصار بامتدادها القبلي والإقليمي . فهذه السلطة الوطنية عندما أسست احزابها وجدت السودان وحدة سياسية أسس علي رقعة جغرافية بفعل خارجي – محمد علي – وان حق تقرير المصير أصبح مبدأ أممي فرضته بقوة الحرب العالمية الثانية .وقررته مصر للسودان الذي اعتبر جزء من أملاكها. وان شكل نظام الحكم قرره المستعمر وفق نظام دولته التي تأسست عبر قرون وكل ذلك في إطار المناورات الامبرتطورية في السيطرة علي العالم. فنشأ السودان كيان مستقل مأزوم غاب فيه المشروع الوطني وغاب فيه الحلم الوطني.
أن الرقعة الجغرافية لايمكن أن تكون وطن إلا إذا كان الشعب الذي يسكنها يحس بوعي جماعي بأنه وطن وانه ينتمي إليه. وهذا الوعي المقصود لا يعني الوعي بوحدة الأرض ،فوحدة الأرض لا تكفي لتأسيس وطن ،فأفريقيا وشبه القارة الهندية أوطان متعددة رغم وحدة الأرض. ولا يعني الوعي الجماعي الاعتقاد بوحدة عرقية لمجموعة الشعب الذي يعيش في هذه الرقعة الجغرافية (كما تأسست ألمانيا وايطاليا) .ولا يعني الوعي الجماعي بوحدة العقيدة التي تجمع ذلك الشعب في الرقعة الجغرافية فباكستان قد انقسمت رغم تلك الوحدة .كما أن الوعي بوحدة الثقافة او الهوية وحدها لا تأسس وطن. فهناك تجربة كوريا التي انقسمت إلي شمالية وجنوبية. أن وحدة الوعي المقصودة هي بان هناك تاريخ مشترك يجمع بين الأفراد الذين يسكنون الرقعة الجغرافية ، بمعني أن الجيل الحالي هو امتداد لأجيال تراكمت خبرتها في الرقعة الجغرافية.
أن التفاعل بين البشر في الرقعة الجغرافية المعنية والذي ينتج وعي مشترك هو الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه الدولة ، فهو الذي يوحد مجموعة البشر في الدولة.وقد يكون هذا الوعي بوحدة ثقافية او عرقية او سياسية ، فكثير من الدول الأوربية قد تشكلت علي ذلك النحو.وقد يكون هذا الوعي بالتعدد والتباين الاثني:{ عرقياً- وثقافياً} فالتاريخ المشترك في الرقعة الجغرافية هو الذي يخلق وعي مشترك بذلك الواقع الجغرافي سوا كان في إطار الوحدة الثقافية او التعدد والتنوع الثقافي وهو الذي يخلق الوحدة السياسية التي تقوم علي أساسها الدولة. فالتنوع الثقافي والعرقي ليس مشكلة في تأسيس الدولة. إذا تشكل وعي جماعي بهذا التعدد، وان كان هذا التعدد يصبح مدخل للقوي الأجنبية الطامعة في السيطرة إذا فشلنا في إدارة ذلك التعدد بطريقة تحقق الإشباع السياسية لكل المجموعات المكونة للدولة. فالوعي بالتعدد الثقافي والعرقي يجب أن يكون أجابه علي السؤال من نحن ؟ وان إدارة ذلك التعدد بالطريقة التي تحقق الإشباع السياسي لكل المجموعات يجب أن يكون هو الإجابة علي السؤال ماذا تريد؟
فالنخبة السياسية التي تسلمت مقاليد الأمور بعد الاستقلال وانعقدت عليها أمال الجماهير لم يتجاوز حلمها كراسي السلطة الذي وفرتها لها شكل الدولة- إلي حلم الجماهير،وبالتالي ظل التمايز الاقتصادي والسياسي الذي ورثته تلك النخبة من المستعمر قائم بين تلك المجموعات الثقافية والعرقية لان تلك النخبة عجزت عن ازالت الحواجز بين تلك الجماعات التي سكنت وتساكنت إلي بعضها في إطار الدولة السودانية ،وقد أدي ذلك إلي توقف نمو الوعي الجمعي ، بل أدي إلي ارتداده وتراجعه وظهور الحركات الجهوية والاقليمة منذ بداية صعود تلك النخبة إلي سدة الحكم والذي علقت النخبة الحاكمة ظهورها علي شماعة المستعمر منذ تمرد حاميت توريت إلي أحداث دارفور.حتى أصبحت تلك الحركات الجهوية والاقليمة المحرك الآن للسياسية في الدولة السودانية.
تلك الحيثيات مقدمه ضرورية في المشروع الإطاري للدولة الوطنية. فيجب أن يكون هناك اتفاق عام بين القوي السياسية حول حيثيات تأسيس الدولة الوطنية التي تتصارع من اجل الوصول إلي السلطة فيها. و لا يعني ذلك الموافقة علي تلك الحيثيات التي طرحناها وإنما هي مطروحة للحوار من اجل الوصول إلي حيثيات متفق عليها لان ذلك هو نقطة البداية في مشروع الدولة الوطنية تقوم عليها كل البنأت الاخري من اجل الخروج من أزمة الوطن .فلا يكفي مجرد الاعتراف بالتعدد والتنوع الثقافي لان ذلك الاعتراف كما قلنا في مقال سابق موجود في الذهنية الشعبية بصورة سلبية يتعارض مع فكرة الوحدة الوطنية. ولا يكفي للخروج من الأزمة الحديث عن التداول السلمي للسلطة. فالديمقراطية ليس شكل نظام حكم ،وإنما مشكلة حرية شعب.
وإضافة إلي تلك الحيثيات فعلينا أن نتفق بان بناء الوطن لا يتطلب فرض هوية واحدة علي الجماعات المنقسمة عرقياً وثقافياً. وإن كانت وحدة الهوية تقلل من مهددات الوحدة الوطنية – فالشعوب ليس قابلة للتذويب والانصهار ولكنها قالبة للتفاعل في جو من الديمقراطية وحرية الاختبار ،وأي محاولة للقهر والإلغاء مألها الفشل . فالاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا لم تستطيع أن تحافظ علي وحدة الدولة بتذويب الشعوب من خلال الايدولوجية . فالجماهير لا تقبل أن تساق من إذنيها ولو إلي الجنة كما قال ماوتسي تونج ...فالنظام القائم الآن ومن خلال سياسته القائمة علي فرض هوية محددة علي كل الرقعة الجغرافية التي تسمي السودان قد أوصل أزمة الدولة السودانية إلي حافت التمزق وقيام كيانات متعددة في تلك الرقعة الجغرافية. إلا انه فتح أفاق للحوار تطلبته مقاومة النظام نفسه من خلال ما طرحه من مشروع للدولة السودانية.
طرح نظام الجبهة القومية الإسلامية مشروعه الحضاري لإعادة صياغة المجتمع السوداني وفق قيم تدعي أنها من الدين من اجل نهضة السودان والخروج به من أزمة الدولة التي ظلت حبيسة الدائرة الخبيثة { انقلاب عسكري- حركة شعبية – حكومة انتقالية – نظام لليبرالي } التي كبلت تطوره منذ أن نال استقلاله لتخرج به إلي رحاب الاستقرار والنهضة في رحاب قيم السماء طارحه بذلك تحدي حضاري للقوي السياسية الاخري التي جربت السلطة وفشلت او كان لها السلطة وانتزعت عنها.
كان علي القوي السياسية أن تواجه ذلك المشروع بمشروع ففرضت المسالة الثقافية نفسها علي الحراك السياسي في إطار الحكومة والمعارضة وتبنت المعارضة شعار السودان الجديد الذي طرحته الحركة الشعبية ،فبدأ الحديث عن التعدد الثقافي والعرقي في مواجهة ما فرضه النظام من هوية محددة فأصبحت المسالة الثقافية تأخذ الأولية في الحراك السياسي ،إلا أن المعارضة لم تكن لها رؤية واحده حول فكرة السودان الجديد لتتحول إلي برنامج سياسي يوحد الجماهير في جبهة وطنية حقيقة لمقاومة النظام. ولكن ظل شعار السودان الجديد .لما له من بريق علي لسان كل الجماهير التي كانت تعاني من ممارسة نظام الإنقاذ، ولذلك كانت الرؤية للسودان الجديد رؤية هلامية لا تختلف عن شعار الإسلام هو الحل فأصبح هذا الشعار أزمة مضافة إلي أزمة الدولة السودانية.
أن القوي التي تبنت هذا الشعار {شعار السودان الجديد} ومن اجل الحفاظ علي السودان بحدوده السياسية وتركيبته السكانية طرحت ما يسمي بالسودانوية كهوية جامعة لتعدد الثقافي والعرقي القائم في السودان ولترسيخ ذلك المفهوم لدي الجماعات المتعددة في السودان بدوا بنفي عروبة الشمال- علي الرغم من أن جميع المنظرين لهذا الشعار هم من الشمال- وبالتالي اسقطوا ثقافة المجموعة الغالبة ، أي إلغاء وجود الأخر في تركيبة الدولة السودانية بما فيهم الدعات أنفسهم وسحب دعائم شخصيتهم التي هي جزء من مكونات الدولة. فإذا كان مطلب شعار {السودان الجديد} أساساً رفض الهيمنة ونفي الأخر والاحادية الثقافي فعلي قوي السودان الجديد أن تعترف بعروبة الشمال ثقافياً وليس إنكارها لمجرد أن النخبة الشمالية التي إدارة البلاد بعد الاستقلال فشلت في تنمية الوعي الجمعي للمجموعات التي تسكن السودان. وإلا كان ذلك هو نفي للأخر الذي يمثل الأغلبية في تكوين الدولة السودانية المنشودة.
أما حديث هذه القوي عن تقسيم الثروة والسلطة عبر عقد اجتماعي جديد من اجل تحقيق المساواة والديمقراطية هو تكريس للجهوية والاقليمة. فمصطلح التقسيم يعني { حقي وحقك } يعني ترسيخ روحه الانفصال ، يعني انفراط ذلك العقد الاجتماعي بين الجماعات التي تسكن السودان بحدوده السياسية ، يعني تمزيق السودان إلي مجموعات.أن الاعتراف بالتعدد الثقافي لا يعني الاعتراف بالكيان الجهوي وإنما هو اعتراف بثقافات داخل الكيان الذي يسمي السودان ،وبتالي فان التوزيع العادل للثروة والتنمية المتوازية وتوسيع الظل الإداري هي المصطلحات التي يجب أن تسود في ظل الاعتراف بالتعددية الثقافية والعرقية ، فمشروع الدولة الوطنية يقوم علي ركيزتين الركيزة الأولي الوحدة الوطنية في ظل التعدد الثقافي والعرقي في مواجهة التفتيت والتشرذم الذي وصلت إليه الحركة السياسية بعد صعود الحركة الجهوية لقيادته .والركيزة الثانية شكل نظام الحكم الذي يتيح لذلك التعدد الثقافي والعرقي تحقيق الإشباع السياسي.
أن تحقيق الوحدة الوطنية من خلال نظام ديمقراطي هو أساس المشروع الوطني للدولة السودانية .والبداية في هذا المشروع الاعتراف بالتعدد السياسي وهذا لا يعني أولوية المسألة السياسية علي المسالة الثقافي، فهناك علاقة جدلية بين المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية . فالمقصود الاعتراف بالأخر السياسي وبان له دور في بناء الوطن ، فليس هناك حق تاريخي لأي حزب. سواء تأسس قبل الاستقلال أم بعده ، سواء رفع علم السودان او خاض معركة كرري يمنحه السلطة في الدولة. وليس هناك حق الإلهي يعطي حزب دون غيره حق تجسيد إرادة السماء في سلطة الدولة.
الحزب السياسي منظمة من منظمات المجتمع المدني ، يختلف عن بقية منظمات المجتمع المدني لرؤيته الشمولية لحل مشكلات الواقع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وبيئياً ، ولا نعني الشمولية بنهجها السياسي. أما تلك الحلول التي بطرحها الحزب لحل مشكلات الواقع ليس بالضرورة أن تكون كلها صحيحة ، وينبغي لنا أن لانتعامل مع تلك الحلول بمفهوم الإقصاى باعتبارها شراً مطلق ولا تنبع من رؤية وطنية ، أي وصفها بالخيانة الوطنية. فالاختراقات الناتجة من الصراعات الاقليمة والدولية للمشروع الوطني يترك لأجهزة الدولة الأمنية. فالحديث عن العمالة والخيانة الوطنية وصف بترك للأجهزة العدلية وليس للقوي السياسية حتى لا يكون ممارسه إرهاب علي الأخر.تلك المفاهيم هي الأساس للاعتراف بالأخر في ظل التعددية السياسية المطلوبة.
أن هذه التعددية الحزبية لا تعني بالضرورة الأخذ بالمنهج اللبيرالي ببعده الاقتصادي كما ظهر في أوربا الغربية أبان الثورة الصناعية .فالمنهج اللبيرالي ليس السبيل الوحيد للتخلص من آثار الدكتاتورية العسكرية .فحرية الانسان تبدأ بتحرير إرادته من كل القيود السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيق تطوره ، وهذا لا يعني أن مشروع الدولة الوطنية المنشود يرفض الحلول التي توصل إليه غيره سوي أن كانت لبيرالية أو اشتراكية ، فهذا تعصب يمنع المشروع الوطني من الاستفادة من التجربة الإنسانية ويحكم عليه بالفشل في ظل تكنولوجيا الاتصالات الذي جعل من العالم قرية صغيرة.
أما شكل السلطة المطلوب في هذا المشروع هو الذي يجعل مقولات مثل حكومة الوحدة الوطنية والوفاق الوطني والجبهة الوطنية المتحدة أمراً واقع فعلياً وليس مجرد شعارات ، يجب أن تحقق تلك المقولات إشباع سياسي لكل الجماهير حتى تستطيع الجماهير أن تقطع الطريق أمام أي مغامرة سياسية دون حاجه لتوقيع ميثاق للدفاع عن الديمقراطية او تكوين هيئة شعبية للدفاع عن الحريات .فان شكل السلطة المطلوب يجب أن يتيح لكل القوي السياسية الوصول ببرنامجها السياسي للجماهير ، هذا من جانب ومن جانب الآخر أن تكون الجماهير قادرة علي التعاطي مع تلك البرامج وان تكون إرادتها حاضرة تستطيع أن تلزم السلطة الحاكمة باحترام خياراتها.
أن قدرة الجماهير علي التعاطي مع برامج الأحزاب السياسية المختلفة وقدرتها علي فرض إرادتها هو الذي يمنح القيمة الايجابية للاعتراف بالتعدد الثقافي والعرقي. وهنا تبرز العلاقة الجدلية بين السياسي والثقافي. فالجماهير بوعيها ندرك التنوع الثقافي من خلال انتمائها وتستطيع أن تفرض إرادتها من خلال اختيارها بما اتاحه لها النظام من إدارة سياسية تحقق الإشباع الثقافي والاجتماعي لكل المجموعات المكونة للسودان بحدوده السياسية الراهنة أي أن تحقق ذلك الإشباع لا يعني الاستجابة للترسبات القبلية والإقليمية والجهوية التي أصبحت تقود الحراك السياسي الآن نتيجة الإخفاق في مواصلة البناء ، فإدارة الدولة بمفهوم تقسيم الثروة والسلطة إستجابه تلك الترسبات دون الوطنية تؤدي في النهاية إلي تقسيم تلك الدولة. فيجب أن يستمر بريق السلطة المركزية كمحور ارتكاز لذلك التعدد والتنوع وليس كسلطة مهيمنة. فالسودان كما يقول الأستاذ/المرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد هو مجال تدامج لكل شعوب القارة الأفريقية ، فهو من خلال موقعة شرق القارة الأفريقية ، حيث تقوم حدود التماس الحضاري بين السلالات السودانية الغربية التي تمتد من غرب النيل إلي المحيط الأطلسي وبين سلالات الهضبة الإثيوبية ، كما يمتد أيضاً هذا التماس للتدامج مع المحيط الإفريقي الاستوائي الممتد إلي الجنوب وصولاً إلي بحيرات النيل في يوغند وكينيا .فهو بهذا الفهم دولة محورية ودائرة تفاعل كبري تحتوي علي كل نماذج القارة الأفريقية. فهو الوسيط الجغرافي بين أقسامها المختلفة ، ولا يستطيع أن يعلب ذلك الدور الوسيط إلا إذا كانت فيه السلطة المركزية لها بريق يجذب الأطراف المكونة له لان تلك الأطراف هي التي تجذب امتدادها خارج الحدود السياسية.وحتى تكون لتلك السلطة المركزية هذا البريق في ظل ذلك التعدد يجب أن تتوجه مشروعات البناء الداخلي الوطني لإعادة الاعتبار إلي مفهوم الدولة ليصبح السودان وطن موحد رغم التعدد والتنوع علي أن يكون ذلك الوطن منفتح علي جواره الإنساني وهذا هو أساس الذي تنبي عليه السياسية الخارجية ، فإننا في عصر العوملة عصر لا توجد فيه إلا الدول الإقليمية او الإمبراطورية.
أن هذه الدولة لا تبنيها الشعارات الجذابة ولا الأناشيد الحماسية التي تشعل الوجدان وقت دائها ثم تزول بعد ذلك كما تفعل الخمر بمعاقرها.. أن حشد الجماهير ترغيباً وقهراً لا يبني الأوطان . كما أن بناء الأوطان لا يقوم علي أنقاض الأخر او تهميشة .فالأرض واحدة هي السودان وتخطيط البيت يمكن أن يتنوع إذا ضمن رسوخ الأساس التي أنبنا عليها. ولكن إذا جهلنا طبيعة الأرض التي أنبنا عليها فلن يقوم لها بنيان فهذه اللحظة هي لحظة ثقافية لحظة تصحيح الوعي المعرفي بالنفس والأخر (كما يقول الأنصاري) فمشروع الدولة الوطنية يبدأ من إصلاح مؤسساتنا الحزبية لتقود الحراك السياسي بدلاً عن القومي الجهوية التي تقود الآن.
منقول من جريدة البديل
الاستاذ الفاتح سليم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى